في عالم الأعمال، نادرًا ما تتفق الشركات الكبرى على شيء واحد. لكل منها رؤيته، استراتيجيته، وطريقه الخاص نحو الهيمنة. ولكن، جاءت نتائج الربع الثالث من عام 2025 (الفترة من يوليو إلى سبتمبر) لتكسر هذه القاعدة. خرج علينا عمالقة التكنولوجيا الخمسة الكبار – جوجل، أمازون، ميتا، آبل، ومايكروسوفت – برسالة موحدة، واضحة، وصادمة: "كل شيء، من أجل الذكاء الاصطناعي".
![]() |
| سباق المليارات كيف يراهن عمالقة التكنولوجيا بكل شيء على الذكاء الاصطناعي؟ |
لم تكن الأرقام "خرافية" فحسب، بل كانت بمثابة إعلان تاريخي عن تحول جذري في بنية الاقتصاد الرقمي. نحن لا نتحدث عن إضافة ميزة ذكاء اصطناعي هنا أو أداة هناك، بل نتحدث عن "حرق" مليارات الدولارات بشكل شهري، ليس كخيار، بل كضرورة حتمية للبقاء. المستثمرون، الذين يرتعدون عادةً من كلمة "زيادة المصاريف"، ابتلعوا الصدمة، لأنهم أدركوا أن هذا السباق ليس مجرد منافسة، بل هو الرهان الأوحد على المستقبل.
هذا المقال ليس مجرد سرد لأرقام الأرباح، بل هو تشريح عميق لاستراتيجية كل عملاق، وكيف يعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل أعمالهم بالكامل، ولماذا يمثل هذا "الإنفاق المجنون" الخطوة الأكثر منطقية في تاريخهم.
🚀 جوجل (ألفابت): إمبراطورية الـ 100 مليار دولار... بدعم الذكاء الاصطناعي
لأول مرة في تاريخها، تجاوزت إيرادات ألفابت (الشركة الأم لجوجل) حاجز 102.3 مليار دولار في ربع واحد فقط، بنمو هائل بلغ 16% وصافي ربح مذهل وصل إلى 35 مليار دولار. هذا الرقم ليس مجرد نمو، بل هو شهادة على أن استراتيجية "AI-First" (الذكاء الاصطناعي أولاً) التي تتبناها الشركة قد بدأت تؤتي أكلها، وبقوة.
1. سحابة Google Cloud: مصنع الذكاء الاصطناعي العالمي
كانت سحابة جوجل هي النجم الأبرز. بنمو بلغ 34% (إيرادات 15.2 مليار دولار)، أثبتت Google Cloud أنها لم تعد مجرد "مزود تخزين"، بل تحولت إلى "مصنع" للذكاء الاصطناعي. السبب؟ "سعار" حقيقي من آلاف الشركات التي تهرع لتشغيل وتدريب نماذجها اللغوية على البنية التحتية الفائقة لجوجل، وتحديدًا على رقائق TPUs (وحدات معالجة التنسور) المخصصة للذكاء الاصطناعي.
2. البحث والإعلانات: الكفاءة الذكية
حتى "البقرة الحلوب" التقليدية لجوجل (البحث والإعلانات)، والتي حققت 56.6 مليار دولار، أصبحت تعمل بالذكاء الاصطناعي. ميزات مثل AI Overview (الملخصات الذكية) لا تجعل البحث أسرع فحسب، بل تجعل الإعلانات أكثر كفاءة وربحية. الذكاء الاصطناعي يفهم نية المستخدم بشكل أعمق، فيعرض الإعلان المناسب في اللحظة المناسبة، مما يرفع العائد الإعلاني.
3. الاشتراكات: عصر Gemini المدفوع
قسم الاشتراكات (12.9 مليار دولار) شهد إقبالاً هائلاً. المستخدمون لا يدفعون فقط مقابل مساحة تخزين في Google One، بل يدفعون الآن للوصول إلى القدرات المتقدمة لنموذج Gemini، سواء في البحث أو مدمجًا في تطبيقات Google Workspace (مثل Docs و Sheets). إنه تحول من بيع "المساحة" إلى بيع "الذكاء".
التحدي الأكبر: جوجل أعلنت بصراحة أن مصاريفها الرأسمالية (CapEx) سترتفع إلى 91-93 مليار دولار في 2025. هذه المليارات موجهة بالكامل لشراء رقائق GPUs و TPUs وبناء مراكز بيانات. الرسالة واضحة: لكي نكسب المزيد من الذكاء الاصطناعي، علينا أن ننفق المزيد عليه أولاً.
💻 مايكروسوفت: "مشكلة" الأثرياء... الطلب يفوق قدرة الاستيعاب!
إذا كان أداء جوجل "مذهلاً"، فإن أداء مايكروسوفت كان "أسطوريًا". بإيرادات 77.7 مليار دولار (+17%) وهامش تشغيل "خرافي" بنسبة 49%، أثبتت مايكروسوفت أنها الفائز الأكبر (حتى الآن) من ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
1. سحابة Azure: النمو الذي لا يصدق
حققت سحابة Azure نموًا بنسبة 39%! هذا الرقم لا يمكن وصفه إلا بالجنون في سوق بهذا الحجم. السر؟ كلمة واحدة: OpenAI. رهان مايكروسوفت المبكر والجريء على OpenAI جعل من Azure المنصة "الرسمية" والوحيدة تقريبًا للشركات الكبرى التي ترغب في تشغيل نماذج GPT-4 وما بعدها بأمان وعلى نطاق واسع. كل شركة في العالم تريد "GPT الخاص بها"، ومايكروسوفت هي من يبيعهم "المجارف" في حمى الذهب هذه.
2. التحدي الأخطر (والأجمل!)
جاء الاعتراف الأكثر إثارة للدهشة من مايكروسوفت نفسها: "الطلب على خدمات Azure AI فاق الطاقة المتاحة". نعم، لقد قرأتها بشكل صحيح. العملاق مايكروسوفت، بكل مراكز بياناته المنتشرة حول العالم، لا يستطيع تلبية كل الطلبات الهائلة على خدمات الذكاء الاصطناعي. هذه ليست مشكلة، بل هي دليل قاطع على أن السوق "متعطش" وأن مايكروسوفت تسيطر على "صنبور المياه" الرئيسي. وقد أكدت الشركة أن "نقص السعة" هذا سيستمر، مما يعني أنهم سيبنون مراكز بيانات بأسرع ما يمكنهم.
الخطوة القادمة: تجديد العقد مع OpenAI بقيمة 250 مليار دولار (لم يبدأ تنفيذه بعد!) هو ليس مجرد عقد، بل هو "زواج كاثوليكي" يضمن لمايكروسوفت الهيمنة على سوق الذكاء الاصطناعي المؤسسي للعقد القادم. مايكروسوفت لا تبيع برمجيات فقط، بل تبيع "الذكاء كخدمة".
☁️ أمازون: وحش الكلاود الذي يفكر في "الطاقة النووية"
أمازون، العملاق الذي يجمع بين التجارة الإلكترونية والسحابة، حقق إيرادات ضخمة بلغت 180.2 مليار دولار (+12%) ودخل تشغيلي 17.4 مليار. ومثل البقية، كان المحرك الأساسي هو الذكاء الاصطناعي، ولكن بنكهة أمازونية خاصة.
1. AWS: سويسرا الذكاء الاصطناعي
حققت سحابة أمازون (AWS) إيرادات بقيمة 33 مليار دولار (+20.2%). استراتيجية AWS تختلف قليلاً. فبينما تروج جوجل ومايكروسوفت لنماذجهما الخاصة (Gemini و GPT) ، تلعب AWS دور "سويسرا المحايدة". هي توفر البنية التحتية الأفضل لتشغيل *أي* نموذج ذكاء اصطناعي، سواء كان من Anthropic (المنافس القوي لـ OpenAI) أو Cohere أو غيرهم. هذا "الحياد" يجعلها الخيار المفضل للكثيرين.
2. Rufus والطاقة النووية: مستقبل التجارة
في قسم التجارة، تستعد أمازون لإطلاق مساعد التسوق الذكي "Rufus"، والذي تتوقع أن يضيف وحده 10 مليارات دولار كمبيعات سنوية إضافية. تخيل أنك تتحدث إلى خبير تسوق يفهمك تمامًا... هذا هو Rufus.
لكن المعلومة الأكثر جنونًا كانت في سطر صغير: أمازون، التي استثمرت 34.2 مليار دولار في ربع واحد فقط (مراكز بيانات، روبوتات)، تبحث الآن بجدية في "الطاقة النووية" لتشغيل مراكز بياناتها المستقبلية. هذا يوضح لك حجم المشكلة: مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي تستهلك طاقة بحجم مدن صغيرة، والطاقة التقليدية لن تكفي.
👥 ميتا: ماكينة طباعة الأموال بـ 3.5 مليار مستخدم يوميًا
مارك زوكربيرج عاد بقوة. بإيرادات 51.2 مليار دولار (+26%) ، أثبتت ميتا أن رهانها على الذكاء الاصطناعي (وليس الميتافيرس حاليًا) كان في محله. ميتا لديها 3.5 مليار مستخدم نشط *يوميًا* عبر تطبيقاتها (فيسبوك، إنستجرام، واتساب).
خوارزميات التوصية: السر وراء المليارات
الذكاء الاصطناعي في ميتا ليس "منتجًا" تبيعه، بل هو "المحرك" الذي يدير المنصة بأكملها.
- Reels: خوارزميات التوصية الذكية هي السبب المباشر في وصول إيرادات Reels السنوية إلى 50 مليار دولار. إنها تفهم ما تريده قبل أن تعرف أنك تريده، وهذا ما يجعلك تلتصق بالشاشة.
- الإعلانات الآلية: أدوات الإعلانات القائمة على الـ AI هي السبب في وصول إيراداتها إلى 60 مليار دولار. المعلنون لم يعودوا بحاجة لاستهداف دقيق، بل يضعون الإعلان والذكاء الاصطناعي يجد العميل المناسب.
ومع وصول إنستجرام إلى 3 مليار مستخدم شهري، و "ثريدز" إلى 150 مليون يوميًا، أصبحت ميتا "مصنع اهتمام" لا يتوقف، يعمل بالكامل بالذكاء الاصطناعي.
التحدي الأكبر: ميتا أعلنت أن مصاريفها ستزيد "بشكل أكبر بكتير" في 2026، مع ضخ 70-72 مليار دولار كنفقات رأسمالية (CapEx) قريبًا. لماذا؟ كلها لبناء مراكز بيانات وشراء رقائق (TPUs/GPUs) وتطوير رقائقها الخاصة (MTIA) لتشغيل نماذجها (مثل Llama) التي تحرك هذه الإمبراطورية الإعلانية.
🍏 آبل: الاستثمار "الصامت" بـ 600 مليار دولار
آبل تبدو دائمًا وكأنها في عالم خاص بها. حققت إيرادات قياسية لربع سبتمبر بـ 102.5 مليار دولار (+8%) وصافي ربح 27.5 مليار. للوهلة الأولى، قد تبدو بعيدة عن "جنون" الذكاء الاصطناعي السحابي، لكن هذا هو الخداع البصري.
1. الخدمات والآيفون: الحصن المنيع
حققت "الخدمات" (Services) أعلى رقم في تاريخها (28.8 مليار دولار)، والآيفون لا يزال قويًا (49 مليار). هذه هي القاعدة الصلبة التي تبني عليها آبل رهانها المستقبلي.
2. رهان الـ 600 مليار دولار: الذكاء الاصطناعي "الشخصي"
أعلنت آبل عن خطة استثمار 600 مليار دولار خلال 4 سنوات داخل أمريكا. جزء ضخم من هذا المبلغ موجه لـ "الهندسة السيليكونية" (تصنيع معالجاتها) و "الذكاء الاصطناعي".
استراتيجية آبل مختلفة جذريًا:
- الذكاء الاصطناعي السحابي (Cloud AI): ما تفعله جوجل ومايكروسوفت. يتطلب اتصالاً بالإنترنت ومراكز بيانات ضخمة.
- الذكاء الاصطناعي على الجهاز (On-Device AI): ما تركز عليه آبل. تشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي القوية مباشرة على شريحة الآيفون أو الماك.
لماذا؟ لسببين: السرعة، والأهم، الخصوصية. آبل تراهن على أن المستخدمين سيفضلون المساعد الذكي الذي يعمل دون إرسال بياناتهم الشخصية إلى السحابة. وهذا يتطلب تصميم معالجات (مثل A-series و M-series) قوية وفعالة بشكل لا يصدق. هذا هو استثمار آبل الحقيقي، وهو رهان صامت، لكنه قد يكون الأذكى على المدى الطويل.
🫧 هل هو "فقاعة"؟... نعم، ولكنه المستقبل!
الآن، لنكن صرحاء. هذه الأرقام "مجنونة". الإنفاق بـ 70 و 90 مليار دولار سنويًا على "مشروع" واحد يبدو كتكرار لـ "فقاعة الدوت كوم" في أواخر التسعينيات. الكثيرون يحذرون من أن الذكاء الاصطناعي مجرد "فقاعة" ستنفجر.
والحقيقة، كما قال سام ألتمان (رئيس OpenAI) بذكاء: "الذكاء الاصطناعي فعلاً فقاعة، ولكن المستقبل يستحق ضخ استثمارات كبيرة وتكبير هذه الفقاعة أكثر وأكثر..."
ما نشهده ليس فقاعة "مضاربة" على شركات لا تملك نموذج ربح. ما نشهده هو فقاعة "بنية تحتية". إنه يشبه "حمى بناء السكك الحديدية" في القرن التاسع عشر، أو "سباق مد شبكات الكهرباء" في القرن العشرين.
نعم، التكاليف باهظة. نعم، استهلاك الطاقة مرعب. ونعم، بعض الشركات قد تفشل. ولكن "البنية التحتية" التي يتم بناؤها الآن – مراكز البيانات، كابلات الألياف الضوئية، رقائق المعالجة الفائقة، ومصادر الطاقة الجديدة – هي التي ستشكل أساس كل التكنولوجيا، وكل الأعمال، وكل جوانب حياتنا في العقود القادمة.
الخلاصة: نقطة اللاعودة
نتائج الربع الثالث لعام 2025 لم تكن مجرد تقرير أرباح، بل كانت "نقطة اللاعودة". لقد انتهى عصر التجربة، وبدأ عصر "التنفيذ الشامل".
الرسالة التي وجهها الرؤساء التنفيذيون الخمسة للعالم هي واحدة: الذكاء الاصطناعي ليس "موضة"، وليس "أداة"، بل هو "النظام التشغيلي" الجديد للاقتصاد العالمي. والشركة التي ستتمكن من بناء البنية التحتية الأقوى، وتأمين مصادر الطاقة الأكبر، وجذب أفضل العقول... هي التي "ستسيطر" على كل شيء في المستقبل. السباق بدأ، والمليارات تُحرق، والفائز سيأخذ كل شيء.
أسئلة شائعة (FAQ)
س1: ما هي الخلاصة الأهم من أرباح شركات التكنولوجيا للربع الثالث 2025؟
الخلاصة الأهم هي الإجماع المطلق بين جميع عمالقة التكنولوجيا (جوجل، مايكروسوفت، أمازون، ميتا، وآبل) على أن الذكاء الاصطناعي هو "الرهان الأوحد". جميعهم يضخون عشرات المليارات من الدولارات (CapEx) لبناء مراكز البيانات وشراء الرقائق، معتبرين هذا الإنفاق ضرورة حتمية للمستقبل، حتى لو أثر على الأرباح قصيرة المدى.
س2: لماذا يعد الذكاء الاصطناعي مكلفًا لهذه الدرجة؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) يتطلب قوة حوسبة هائلة.
- التدريب: تدريب نموذج لغوي كبير واحد يكلف مئات الملايين من الدولارات في فواتير الكهرباء وقوة المعالجة (GPUs/TPUs).
- التشغيل (Inference): كل مرة تسأل فيها ChatGPT أو Gemini سؤالاً، فإنه يستهلك طاقة حوسبية كبيرة للرد عليك.
- البنية التحتية: يتطلب الأمر بناء مراكز بيانات بحجم ملاعب كرة القدم، وتزويدها بأنظمة تبريد معقدة، وتأمين مصادر طاقة هائلة (لدرجة أن أمازون تبحث في الطاقة النووية).
س3: ما الفرق الرئيسي بين استراتيجية آبل وجوجل في الذكاء الاصطناعي؟
الفرق جوهري:
- جوجل (ومايكروسوفت/ميتا): تركز بشكل أساسي على "الذكاء الاصطناعي السحابي" (Cloud AI). نماذج عملاقة تعيش في مراكز بيانات ضخمة، وأنت تتصل بها عبر الإنترنت (مثل بحث جوجل، Gemini، ChatGPT).
- آبل: تركز على "الذكاء الاصطناعي على الجهاز" (On-Device AI). هدفها تشغيل نماذج ذكاء اصطناعي قوية ومؤثرة مباشرة على شريحة هاتفك (الآيفون) أو حاسوبك (الماك). هذا يوفر سرعة أعلى وخصوصية تامة، وهو رهان آبل الأكبر.
س4: هل الذكاء الاصطناعي مجرد "فقاعة" ستنفجر قريبًا؟
هو "فقاعة" من حيث حجم الاستثمار الهائل والسريع، الذي يذكرنا بفقاعة "الدوت كوم". ولكن الفارق، أن هذه ليست فقاعة مضاربة على أفكار، بل هي "فقاعة بناء بنية تحتية". هي تشبه سباق بناء السكك الحديدية أو شبكات الكهرباء. قد تفشل بعض الشركات، ولكن البنية التحتية (مراكز البيانات، الرقائق) التي تُبنى الآن هي التي ستشغل العالم للعقود القادمة، مما يجعلها "فقاعة أساسية" لا غنى عنها.
